عيد بأية حال عدت يا عيد ... للمتنبي



كان المتنبي يطمح لأكثر من مجالسة الملوك، فقد ميالاً للسلطة والجاه، يطمع في أن ينال شيئاً من الولاية والإمارة، إلا أنه لم يحصل أبداً على مبتغاه، فعاش متنقلاً من قصر لآخر، لا ينال أكثر من عطايا وهدايا الملوك على شعره ومدحه لهم.

ولعل ذلك سبب الجفوة التي أصابت علاقته بسيف الدولة الحمداني الذي كان يحكم جزءاً من الشام، فعلى الرغم من كم القصائد والمدح التي ألقاها على مسامع "الحمداني" إلا أنه اضطر لمغادرة الشام التي نشأ فيها، وارتحل إلى مصر حيث كان يحكمها واحداً من أكثر الحكام دهاءً وهو كافور الإخشيدي.

وعلى الرغم من البداية الجيدة في العلاقة بين المتنبي والإخشيدي، وقصائد المدح التي انهالت على حاكم مصر، إلا أنه سرعان ما انتهت العلاقة على عكس المتوقع، فقد دخل المتنبي على كافور طالباً للسلطة والجاه، لكن كافوراً كان حكيماً، مرهوب الجانب، فلم يستجب لمطالبه ومآربه.

لم يجد المتنبي مبتغاه لدى كافور، فقد كان للشاعر الشهير عند كافور مقاصد غير المكوث في قصره، وتلقي العطايا العينية، فلما بدا له أنه لن ينال منها شيء، بدأ الجفاء بينهما، فكتب يهجوه في قصيدة "بأية حال عدت يا عيد".

ونظم المتني تلك القصيدة من 30 بيتاً قبل رحيله عن مصر بيوم واحد، وذلك في يوم عرفة عام 350هـ، قُبيل عيد الأضحى المبارك، تعبيراً عن حزنه، وانتظاره أن يحمل له العيد أخباراً سارة، ولقاء الأحبة بعد فراق دام لعام فترة مكوثه في مصر، وأيضاً تحمل الأبيات هجاءً لحاكم مصر كافور الإخشيدي، بعدما لم يجد لديه مبتغاه في الوصول إلى السلطة والجاه.

عيدٌ بِأَيَّةِ حالٍ عُدتَ يا عيدُ ... بِما مَضى أَم بِأَمرٍ فيكَ تَجديدُ
أَمّا الأَحِبَّةُ فَالبَيداءُ دونَهُمُ
... فَلَيتَ دونَكَ بيداً دونَها بيدُ
لَولا العُلى لَم تَجُب بي ما أَجوبُ بِها
... وَجناءُ حَرفٌ وَلا جَرداءُ قَيدودُ
وَكانَ أَطيَبَ مِن سَيفي مُضاجَعَةً
... أَشباهُ رَونَقِهِ الغيدُ الأَماليدُ
لَم يَترُكِ الدَهرُ مِن قَلبي وَلا كَبِدي
... شَيْئاً تُتَيِّمُهُ عَينٌ وَلا جيدُ
يا ساقِيَيَّ أَخَمرٌ في كُؤوسِكُما
... أَم في كُؤوسِكُما هَمٌّ وَتَسهيدُ
أَصَخرَةٌ أَنا مالي لا تُحَرِّكُني
... هَذي المُدامُ وَلا هَذي الأَغاريدُ
إِذا أَرَدتُ كُمَيتَ اللَونِ صافِيَةً
... وَجَدتُها وَحَبيبُ النَفسِ مَفقودُ
ماذا لَقيتُ مِنَ الدُنيا وَأَعجَبُهُ
... أَنّي بِما أَنا باكٍ مِنهُ مَحسودُ
أَمسَيتُ أَروَحَ مُثرٍ خازِناً وَيَداً
... أَنا الغَنِيُّ وَأَموالي المَواعيدُ
إِنّي نَزَلتُ بِكَذّابينَ ضَيفُهُمُ
... عَنِ القِرى وَعَنِ التَرحالِ مَحدودُ
جودُ الرِجالِ مِنَ الأَيدي وَجودُهُمُ
... مِنَ اللِسانِ فَلا كانوا وَلا الجودُ
ما يَقبِضُ المَوتُ نَفساً مِن نُفوسِهِمُ
... إِلّا وَفي يَدِهِ مِن نَتنِها عودُ
مِن كُلِّ رِخوِ وِكاءِ البَطنِ مُنفَتِقٍ
... لا في الرِحالِ وَلا النِسوانِ مَعدودُ
أَكُلَّما اِغتالَ عَبدُ السوءِ سَيِّدَهُ
... أَو خانَهُ فَلَهُ في مِصرَ تَمهيدُ
صارَ الخَصِيُّ إِمامَ الآبِقينَ بِها
... فَالحُرُّ مُستَعبَدٌ وَالعَبدُ مَعبودُ
نامَت نَواطيرُ مِصرٍ عَن ثَعالِبِها
... فَقَد بَشِمنَ وَما تَفنى العَناقيدُ
العَبدُ لَيسَ لِحُرٍّ صالِحٍ بِأَخٍ
... لَو أَنَّهُ في ثِيابِ الحُرِّ مَولودُ
لا تَشتَرِ العَبدَ إِلّا وَالعَصا مَعَهُ
... إِنَّ العَبيدَ لَأَنجاسٌ مَناكيدُ
ما كُنتُ أَحسَبُني أَحيا إِلى زَمَنٍ
... يُسيءُ بي فيهِ كَلبٌ وَهوَ مَحمودُ
وَلا تَوَهَّمتُ أَنَّ الناسَ قَد فُقِدوا
... وَأَنَّ مِثلَ أَبي البَيضاءِ مَوجودُ
وَأَنَّ ذا الأَسوَدَ المَثقوبَ مِشفَرُهُ
... تُطيعُهُ ذي العَضاريطُ الرَعاديدُ
جَوعانُ يَأكُلُ مِن زادي وَيُمسِكُني
... لِكَي يُقالَ عَظيمُ القَدرِ مَقصودُ
إِنَّ اِمرَءً أَمَةٌ حُبلى تُدَبِّرُهُ
... لَمُستَضامٌ سَخينُ العَينِ مَفؤودُ
وَيلُمِّها خُطَّةً وَيلُمِّ قابِلِها
... لِمِثلِها خُلِقَ المَهرِيَّةُ القودُ
وَعِندَها لَذَّ طَعمَ المَوتِ شارِبُهُ
... إِنَّ المَنِيَّةَ عِندَ الذُلِّ قِنديدُ
مَن عَلَّمَ الأَسوَدَ المَخصِيَّ مَكرُمَةً
... أَقَومُهُ البيضُ أَم آبائُهُ الصيدُ
أَم أُذنُهُ في يَدِ النَخّاسِ دامِيَةً
... أَم قَدرُهُ وَهوَ بِالفَلسَينِ مَردودُ
أَولى اللِئامِ كُوَيفيرٌ بِمَعذِرَةٍ
... في كُلِّ لُؤمٍ وَبَعضُ العُذرِ تَفنيدُ
وَذاكَ أَنَّ الفُحولَ البيضَ عاجِزَةٌ
... عَنِ الجَميلِ فَكَيفَ الخِصيَةُ السودُ

أرشيف المدونة

نموذج الاتصال

إرسال