سيوردني التذكار حوض المهالكِ ... فلست لتذكار الحبيب بتاركِ

 

 
قال أحدهم: دعاني فتى من أهل المدينة إلى غادة حسناء، فلما دخلنا عليها إذا هي أحسن الناس وجهًا، وإذا بها انخراط وجه وسهو وسكوت، فجعلنا نبسطها بالمزاح والكلام ويمنعها من ذلك ما تكتمه، فقلت في نفسي: والله إن بها لهيامًا وطائفًا من الحب، فأقبلت عليها فقلت: بالله تصدقيني ما الذي بك؟ فقالت: برح الذكر، ودوام الفكر، وخلو النهار، وتشوق إلى من سار، والذي يرى ما وصفت لك، فإن كنت ذا أدب صرمت العتب عن ذي الكرب، واجتهدت في الطلب لدواء من قد أشرف على العطب، كما قال الشاعر:
سيوردني التذكار حوض المهالكِ ... فلست لتذكار الحبيب بتاركِ
أبى الله إلا أن أموت صبابةً ... ولست لما يقضي الإله بمالك
كأن بقلبي حين شطت بي النوى ... وخلفني فردًا صدور النيازك
تقطعت الأخبار بيني وبينه ... لبعد النوى واستد سبل المسالك

قال: فوالله لقد خفت على عقلي أن تسلبه بلفظها الحسن، فقلت: جعلني الله فداءك، وهو الذي صيرك إلى ما أرى يستحق هذا منك، فوالله إن الناس لكثير، فلو تسليت بغيره فلعل ما بك يسكن أو يخف، فقد قال أحدهم: 
 
صبرت على اللذات لما تولت ... وألزمت نفسي صبرها فاستمرت
وما النفس إلا حين يجعلها الفتى ... فإن أطمعت تاقت وإلا تسلت

فأقبلت عليَّ فقالت: والله لقد رمت ذلك، فكنت كما قال قيس بن الملوح:

ولما أبى إلا جماحًا فؤاده ... ولم يسل عن ليلى بمالٍ ولا أهلِ
تسلى بأخرى غيرها فإذا التي ... تسلى بها تغري بليلي ولا تسلي

فأسكتتني والله بتواتر حججها عن محاورتها، وما رأيت كمنطقها ولا كشكلها وأدبها وكمال خلقها.

أرشيف المدونة

نموذج الاتصال

إرسال